فصل: تفسير الآيات (51- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (51- 53):

قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما دل ذلك على الموت قطعًا، عقبه بالبعث، ولذلك عبر فيه بالنفخ فإنه معروف في إفاضة الروح فقال: {ونفخ في الصور} أي الذي أخذتهم صيحته، وجهله إشارة إلى أنه لا توقف له في نفس الأمر على نافخ معين ليكون عنه ما يريد سبحانه من الأثر، بل من أذن له الله كائنًا من كان تأثر عن نفخه ما ذكر، وإن كنا نعلم أن المأذون له إسرافيل عليه السلام.
ولما كان هذا النفخ سببًا لقيامهم عنده سواء من غير تخلف، عبر سبحانه بما يدل على التعقب والتسبب والفجاءة فقال: {فإذا هم} أي في حين النفخ {من الأجداث} أي القبور المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ {إلى ربهم} أي الذي أحسن إليهم بالتربية والتهيئة لهذا البعث فكفروا إحسانه، لا إلى غيره {ينسلون} أي يسرعون المشي مع تقارب الخطى بقوة ونشاط، فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة، حيث كان صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى، كأنه ركب فيه من الأسرار أنه يكسب كل شيء ضد ما هو عليه من حياة أو موت أو غشي أو إفاقة.
ولما تشوفت النفس إلى سماع ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون، استأنف قوله: {قالوا} أي الذين هم من أهل الويل من عموم الذين الذين قاموا بالنفخة وهم جميع من كان قد مات قبل ذلك.
ولما كانوا عالمين بأن جزاء ما أسلفوا كل خزي، اتبعوه قولهم حاكيًا سبحانه عبارتهم إذ ذاك لأنه أنكى لهم: {يا ويلنا} أي ليس بحضرتنا اليوم شيء ينادمنا إلا الويل، ثم استفهموا جربًا على عادتهم في الغباوة فقالوا مظهرين لضميرهم تخصيصًا للويل بهم لأنهم في معرض الشك: {من بعثنا من مرقدنا} عدوا مكانهم الذين كانوا به- مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ- مرقدًا هنيئًا بالنسبة إلى ما انكشف لهم أنهم لا قوة من العذاب الأكبر، ووحدوه إشارة إلى أنهم على تكاثرهم وتباعدهم كانوا في القيام كنفس واحدة ثم تذكروا ما كانوا يحذرونه من أن الله هو يبعثهم للجزاء الذي هو رحمة الملك لأهل مملكته، فقالوا مجيبين لأنفسهم استئنافًا: {هذا ما} أي الوعد الذي {وعد} أي به، وحذفوا المفعول تعميمًا لأنهم الآن في حيز التصديق {الرحمن} أي العام الرحمة الذي رحمانيته مقتضية ولابد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه، ويجازي كلًا بعمله من غير حيف، وقد رحمنا بإرسال الرسل إلينا بذلك، وطال ما أنذرونا حلوله، وحذرونا صعوبته وطوله.
ولما كان التقدير: فصدق الرحمن، عطف عليه قوله: {وصدق} أي في أمره {المرسلون} أي الذين أتونا بوعده ووعيده، فالله الذي تقدم وعده به وأرسل به ورسله هو الذي بعثنا تصديقًا لوعده ورسله.
ولما كان الإخبار بالنفخ لا ينفي التعدد، قال محقرًا لأمر البعث بالنسبة إلى قدرته مظهرًا للعناية بتأكيد كونها واحدة بجعل الخبر عنه أصلًا مستقلًا بفضله عن النفخ والإتيان فيه بفعل الكون و أن النافية لأدنى مظاهر مدخولها فكيف بما وراءه دون ما التي إنما تنفي التمام: {إن} أي ما {كانت} أي النفخة التي وقع الإحياء بها مطلق كون {إلا صيحة واحدة} أي كما كانت نفخة الإماتة واحدة {فإذا هم} أي فجأة من غير توقف أصلًا {جميع} أي على حالة الاجتماع، لم يتأخر منهم أحد، يتعللون به في ترك الانتصار، ودوام الخضوع والذل والصغار، ولما كان ذلك على هيئات غريبة لا يبلغ كنهها العقول، قال لافتًا القول إلى مظهر العظمة معبرًا بما للأمور الخاصة: {لدينا} ولما كان ذلك أمرًا لابد منه، ولا يمكن التخلف عنه، عبر بصيغة المفعول وأكد معنى الاجتماع بالجمع نظرًا إلى معنى جميع ولم يفرد اعتبارًا للفظها لما ذكر من المعنى فقال: {محضرون} أي بغاية الكراهة منهم لذلك بقادة تزجرهم وساقة تقهرهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} أي نفخ فيه مرة أخرى كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال تعالى في موضع آخر: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وقال ههنا: {فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} والقيام غير النسلان وقوله في الموضعين: {فَإِذَا هُم} يقتضي أن يكون معًا نقول الجواب: عنه من وجهين أحدهما: أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر وثانيهما: أن السرعة مجىء الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل:
مكر مفر مقبل مدبر معا ** كجلمود صخر حطه السيل من عل

المسألة الثانية:
كيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الأحياء والإماتة؟ نقول لا مؤثر غير الله والنفخ علامة، ثم إن الصوت الهائل يزلزل الأجسام فعند الحياة كانت أجزاء الحي مجتمعة فزلزلها فحصل فيها تفريق، وحالة الموت كانت الأجزاء متفرقة فزلزلها فحصل فيها اجتماع فالحاصل أن النفختين يؤثران تزلزلًا وانتقالًا للأجرام فعند الاجتماع تتفرق وعند الافتراق تجتمع.
المسألة الثالثة:
ما التحقيق في إذا التي للمفاجأة؟ نقول هي إذا التي للظرف معناه نفخ في الصور فإذا نفخ فيه هم ينسلون لكن الشيء قد يكون ظرفًا للشيء معلومًا كونه ظرفًا، فعند الكلام يعلم كونه ظرفًا وعند المشاهدة لا يتجدد علم كقول القائل إذا طلعت الشمس أضاء الجو وغير ذلك، فإذا رأى إضاءة الجو عند الطلوع لم يتجدد علم زائد، وأما إذا قلت خرجت فإذا أسد بالباب كان ذلك الوقت ظرف كون الأسد بالباب.
لكنه لم يكن معلومًا فإذا رآه علمه فحصل العلم بكونه ظرفًا له مفاجأة عند الإحساس فقيل إذا للمفاجأة.
المسألة الرابعة:
أين يكون في ذلك الوقت أجداث وقد زلزلت الصيحة الجبال؟ نقول يجمع الله أجزاء كل واحد في الموضع الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه.
المسألة الخامسة:
الموضع موضع ذكر الهيبة وتقدم ذكر الكافر ولفظ الرب يدل على الرحمة فلو قال بدل الرب المضاف إليهم لفظًا دالًا على الهيبة هل يكون أليق أم لا؟ قلنا: هذا اللفظ أحسن ما يكون، لأن من أساء واضطر إلى التوجه من أحسن إليه يكون ذلك أشد ألمًا وأكثر ندمًا من غيره.
المسألة السادسة:
المسيء إذا توجه إلى المحسن يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، والنسلان هو سرعة المشي فكيف يوجد منهم ذلك؟ نقول: ينسلون من غير اختيارهم، وقد ذكرنا في تفسير قوله: {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات: 19] أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في الصور، فيكون في وقته جمع وتركيب وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد، فقوله: {فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} يعني في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} يعني لما بعثوا قالوا ذلك، لأن قوله: {وَنُفِخَ في الصور} [يس: 51] يدل على أنهم بعثوا وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
لو قال قائل: لو قال الله تعالى {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} يقولون: يا ويلنا كان أليق، نقول معاذ الله، وذلك لأن قوله: {فَإِذَا هُم مّنَ الأجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] على ما ذكرنا إشارة إلى أنه تعالى في أسرع زمان يجمع أجزاءهم ويؤلفها ويحييها ويحركها، بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ، مع أن ذلك لابد له من الجمع والتأليف، فلو قال يقولون، لكان ذلك مثل الحال لينسلون، أي ينسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك، فإن قولهم يا ويلنا قبل أن ينسلوا، وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفوائد.
المسألة الثانية:
لو قال قائل: قد عرفنا معنى النداء في مثل يا حسرة ويا حسرتا ويا ويلنا، ولكن ما الفرق بين قولهم وقول الله حيث قال: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] من غير إضافة، وقالوا: يا حسرتا ويا حسرتنا ويا ويلنا؟ نقول حيث كان القائل هو المكلف لم يكن لأحد علم إلا بحالة أو بحال من قرب منه، فكان كل واحد مشغولًا بنفسه، فكان كل واحد يقول: يا حسرتنا ويا ويلنا، فقوله: {قَالُواْ ياويلنا} أي كل واحد قال يا ويلي، وأما حيث قال الله قال على سبيل العموم لشمول علمه بحالهم.
المسألة الثالثة:
ما وجه تعلق: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} بقولهم: {يا ويلنا} نقول لما بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل، فقالوا: يا ولينا من بعثنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نيامًا فنبهنا؟ وهذا كما إذا كان إنسان موعودًا بأن يأتيه عدو لا يطيقه، ثم يرى رجلًا هائلًا يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول: هذا ذلك أم لا؟ ويدل على ذكرنا قولهم: {مِن مَّرْقَدِنَا} حيث جعلوا القبور موضع الرقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نيامًا فنبهوا أو كانوا موتى وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين، فقالوا: {مَن بَعَثَنَا} إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به، وقالوا: {مِن مَّرْقَدِنَا} إشارة إلى توهمهم احتمال الانتباه.
المسألة الرابعة:
{هذا} إشارة إلى ماذا؟ نقول فيه وجهان:
أحدهما: أنه إشارة إلى المرقد كأنهم قالوا: من بعثنا من مرقدنا هذا فيكون صفة للمرقد يقال كلامي هذا صدق.
وثانيهما: {هذا} إشارة إلى البعث، أي هذا البعث ما وعد به الرحمن وصدق فيه المرسلون.
المسألة الخامسة:
إذا كان هذا صفة للمرقد فكيف يصح قوله تعالى: {مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون}؟ نقول يكون ما وعد به الرحمن، مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق، والمرسلون صدقوا، أو يقال ما وعد الرحمن وصدق فيه المرسلون حق، والأول أظهر لقلة الإضمار، أو يقال ما وعد الرحمن خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ما وعد الرحمن من البعث ليس تنبيهًا من النوم، وصدق المرسلون فيما أخبروكم به.
المسألة السادسة:
إن قلنا: {هذا} إشارة إلى المرقد أو إلى البعث، فجواب الاستفهام بقولهم {مَن بَعَثَنَا} أن يكون؟ نقول: لما كان غرضهم من قولهم: {مَن بَعَثَنَا} حصول العلم بأنه بعث أو تنبيه حصل الجواب بقوله هذا بعث وعد الرحمن به ليس تنبيهًا، كما أن الخائف إذا قال لغيره ماذا تقول أيقتلني فلان؟ فله أن يقول لا تخف ويسكت، لعلمه أن غرضه إزالة الرعب عنه وبه يحصل الجواب.
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، يدل على النفخة قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور} [يس: 51] ويحتمل أن يقال إن كانت الواقعة، وقرئت الصيحة مرفوعة على أن كان هي التامة، بمعنى ما وقعت إلا صيحة، وقال الزمخشري: لو كان كذلك لكان الأحسن أن يقال: إن كان، لأنا لمعنى حينئذٍ ما وقع شيء إلا صيحة، لكن التأنيث جائز إحالة على الظاهر، ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع أن قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] تأنيث تهويل ومبالغة، يدل عليه قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] فإنها للمبالغة فكذلك هاهنا قال: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً} مؤنثة تأنيث تهويل، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحاقة والطامة والصاخة إلى غيرها، والزمخشري يقول كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة، وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة، وقوله: {مُحْضَرُونَ} دل على أن كونهم {يَنسِلُونَ} [يس: 51] إجباري لا اختياري. اهـ.